وسط تحركات الجنائية الدولية.. «دارفور» بين جحيم الماضي وتطلعات إنهاء الحرب

وسط تحركات الجنائية الدولية.. «دارفور» بين جحيم الماضي وتطلعات إنهاء الحرب
وضع كارثي يواجهه النازحون في دارفور

تعتزم المحكمة الجنائية الدولية تقديم طلبات لإصدار مذكرات توقيف جديدة بحق المسؤولين عن الجرائم في إقليم دارفور السوداني، لا سيما في ظل استمرار الانتهاكات الإنسانية ومواجهة الجيل الجديد من السودانيين الجحيم الذي عاشته أجيال قبل نحو عقدين في الإقليم المنكوب.

ودارفور (غرب السودان) إقليم يتجاوز عدد سكانه 9 ملايين نسمة، وتبلغ مساحته نحو 20 بالمئة من مساحة البلاد، وينقسم إداريًا إلى 5 ولايات، وهي: الشمال وعاصمتها الفاشر، والغرب وعاصمتها الجنينة، والشرق وعاصمتها الضعين، والوسط وعاصمتها زالنجي، والجنوب وعاصمتها نيالا.

ويتوزع سكان دارفور بين قبائل عربية وإفريقية منها المحاميد، والمساليت، والرزيقات، التي ينحدر منها قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو، أحد أطراف الحرب التي اندلعت في السودان.

وسبق أن شهد إقليم دارفور سنوات سوداء شهدها مع اندلاع نزاع مسلح منذ فبراير 2003، بين الحكومة وحركات مسلحة، على إثرها قاد الرئيس السابق آنذاك عمر البشير، حملات مواجهات ضارية، قادته إلى ملاحقات دولية إثر اتهامات ينفها بـ"ارتكاب إبادة جماعية"، قبل أن يوقع اتفاق سلام في عام 2010.

تحركات حثيثة

وأكد المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، خلال جلسة دورية أمام مجلس الأمن الدولي، الاثنين الماضي، أن جيلا جديدا من السودانيين في دارفور يواجه "الجحيم" ذاته الذي عاشته الأجيال السابقة خلال الحرب الأهلية في بداية القرن الحالي، قائلا: "من الواضح أن الجرائم الدولية تُرتكب حالياً في دارفور". 

وأعلن خان أن المحكمة تتخذ خطوات لتقديم طلبات لإصدار مذكرات توقيف بحق المسؤولين عن هذه الجرائم، بما في ذلك المجاعة المتعمدة واستهداف الأطفال واغتصاب النساء والفتيات، مشيرا  إلى أن المعاناة الحالية في السودان تعكس الظروف المأساوية التي أدت إلى إحالة قضية دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية قبل عقدين من الزمن.

وانزلق السودان منذ أبريل 2023، إلى صراع دموي بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، ما أدى إلى تفاقم الأوضاع في إقليم دارفور الذي شهد مجازر واشتباكات دامية قبل نحو 20 عاما، إذ تم إصدار مذكرات اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية بحق مسؤولين سودانيين بارزين، لم يتم تنفيذ العديد منها، بما في ذلك مذكرة اعتقال الرئيس السابق عمر البشير. 

التحقيق في الجرائم المرتكبة

وكانت المحكمة الجنائية الدولية قد فتحت تحقيقاً جديداً في الجرائم المرتكبة في المنطقة استجابة لتصاعد النزاع، الذي أودى بحياة الآلاف وأدى إلى تشريد ملايين المدنيين، حيث دعا المدعي العام السلطات السودانية للتعاون مع المحكمة الجنائية وتسليم المطلوبين، مؤكداً أن محاسبة المسؤولين عن الجرائم هي خطوة حاسمة نحو تحقيق العدالة وإنهاء المعاناة في دارفور.

وسبق أن أعلن خان، في 11 يونيو 2024، عن قلقه البالغ إزاء العنف المستعر في إقليم دارفور السوداني، وحث الشهود على إرسال الأدلة إلى مكتبه للمساعدة في الوصول إلى أدلة حاسمة، مطالبا بتقديم معلومات وأدلة على الفظائع المرتكبة في السودان، قائلاً إن تحقيقه المستمر يبدو أنه يكشف عن اعتداء منظم ومنهجي وعميق على الكرامة الإنسانية.

وقال خان آنذاك، إن "الأحداث الرهيبة في غرب دارفور في عام 2023 هي من بين أولوياتنا الرئيسية في التحقيق، وبالإضافة إلى ذلك أشعر بقلق بالغ إزاء مزاعم ارتكاب جرائم دولية واسعة النطاق في الإقليم"، محذرا من تصاعد العنف والمعاناة والبؤس والعذاب في دارفور.

وقدّم المدعي العام كريم خان، إحاطة لمجلس الأمن مرفقة تقارير موثقة عن جرائم اغتصاب ضد الأطفال واضطهاد واسع النطاق ضد المدنيين الأكثر ضعفا، مؤكدا أن "الترويع أصبح عملة شائعة وهذا الترويع لا يشعر به من يحملون البنادق والأسلحة وإنما يشعر به الناس الذين يهربون في كثير من الأحيان حفاة".

أرقام مرعبة 

ومنذ منتصف أبريل 2023، تواصل الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، مما خلف نحو 18,800 قتيل، وقرابة 10 ملايين نازح ولاجئ، وفقًا للأمم المتحدة، مما يجعل الأزمة واحدة من أكبر الكوارث الإنسانية في المنطقة، وتؤكد الأمم المتحدة أن 25 مليون شخص، أي أكثر من نصف سكان السودان، باتوا الآن بحاجة للمساعدة والحماية.

وفي مايو 2024، ذكر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية "أوتشا" في تقرير، أن أكثر من 8.8 مليون شخص فروا من منازلهم منذ اندلاع القتال بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع في منتصف أبريل 2023.

ونزح ما يقدر بنحو 6.8 مليون شخص داخل البلاد، بينهم أكثر من 30 بالمئة في إقليم دارفور وحده، على النحو التالي: في ولايات جنوب دارفور (11 بالمئة)، وشرق دارفور (10 بالمئة)، بخلاف نزوح من شمال دارفور (9 بالمئة) ووسط دارفور (4 بالمئة).

وفي أغسطس 2024، كشف تقرير جديد صادر عن الأمم المتحدة، أن النزاع المتصاعد الذي استمر 15 شهرا بين الأطراف المتنازعة “قد عرقل بشدة الوصول الإنساني ودفع أجزاء من شمال دارفور إلى المجاعة، خاصة في مخيم زمزم للنازحين داخليًا”.

وفي أكتوبر 2024، كشف قادة قبائل في السودان عن فرار نحو 40 ألف شخص إلى تشاد عقب هجمات عنيفة نفذتها قوات الدعم السريع على 33 قرية في الجزء الشمالي الغربي من ولاية شمال دارفور، وفق ما ذكره  موقع "سودان تربيون"، الجمعة، بأن مناطق في الجزء الشمالي الغربي من ولاية شمال دارفور شهدت مواجهات دامية بين قوات الدعم السريع وقوة متحركة تابعة للقوة المشتركة للحركات المسلحة قبل نحو أسبوعين.

ومؤخرا أفادت المنظمة الدولية للهجرة، بأن ما يقدر بـ3960 أسرة نزحت من بلدات مختلفة في منطقة الفاشر بين 25 و27 يناير 2025، إذ استولت قوات الدعم السريع، التي تتواجه مع الجيش السوداني على جميع مدن منطقة دارفور باستثناء الفاشر، عاصمة شمال دارفور، التي ظلت محاصرة منذ مايو الماضي.

جحيم الماضي

قال الحقوقي البارز الذي ناضل لسنوات في دارفور، صالح عثمان: "دارفور تعاني مما هو أسوأ من جحيم الماضي مع اتساع دائرة مناطق الانتهاكات والجرائم عما كان سابقا، فالمناطق التي تكتظ بالنازحين باتت اليوم مستهدفة بعدما كانت ملاذات آمنة، فضلا عن العنف الكبير ضد النساء".

وأوضح صالح عثمان، الذي شغل منصب نائب رئيس نقابة المحامين في دارفور، أن خطوة الجنائية الدولية قد تكون جيدة حال أرفقت مذكرات التوقيف القديمة مع نظيرتها الحديدة، فلم يطلب المدعي العام كريم خان، تسليم عمر البشير، لافتا إلى أن الخطوة الجديدة نتمنى أن تسعى ويتم السعي في مجلس الأمن بشأنها بصورة أكبر وأكثر تأثيرا. 

واستبعد عثمان في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن تخرج دارفور من هذه المأساة في ظل غياب الإرادة الجماعية الدولية سواء الإفريقية أو الأممية أو العربية، مضيفا: "لكن بالإرادة فإن الشعب السوداني ومدافعي حقوق الإنسان يمكن أن تنصر حقوق الشعب وتصنع مستقبلا لا يفلت فيه الجناة من الحساب ويطبقون القانون على الجميع".

الوضع في دارفور مأساوي

من جانبها، قالت هالة الكارب، المديرة الإقليمية لمبادرة نساء القرن الإفريقي (صيحة)، إن الوضع في دارفور مأساوي بمعنى الكلمة، لأكثر من 20 سنة دمر الدعم السريع ومليشيات الجنجويد -وفقاً لأوامر نظام البشير البائد- أرياف دارفور، وتحول الملايين من سكانه والمزارعين المنتجين والمجتمعات التي كانت تسهم في الاقتصاد إلى نازحين على أطراف المدن. 

وأضافت “الكارب” في تصريحات لـ"جسور بوست": "لم يحظ إقليم دارفور بأى نوع من السلام حتى في الفترة الانتقالية وعقب انهيار نظام البشير حيث تم إنهاء بعثة الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة في الإقليم والتي كانت تعمل على توفير حماية للنازحين وترفع تقارير منتظمة عن الانتهاكات، وأصبح الإقليم عرضة لعنف المليشيات وتمكينها".

وتابعت: "ولم تتخذ الحكومة الانتقالية أو المجتمع الدولي أي ترتيبات أمنية تحد من تمدد ميليشيات الدعم السريع، على العكس ارتفعت وتيرة الانتهاكات حتى حرب 14 أبريل 2023 وتمددت لتشمل كل السودان.. وتفاقمت معاناة أهل دارفور وأصبح سكان الإقليم عرضة للقتل الجماعي والإبادة والاغتصاب والاسترقاق". 

وعن اعتزام الجنائية الدولية إصدار مذكرات توقيف جديدة تتعلق بجرائم في دارفور ترى الحقوقية هالة الكارب، أنها "خطوة غاية في الأهمية في إيقاف النزيف الذي يحدث في دارفور وفي السودان، وفي منح الضحايا الحق في الوصول إلى العدالة وأيضا رسالة واضحة ضد المنتهكين واستخدام أجساد المدنيين في صراعات السلطة".

وعن احتمال تكرار إفلات الجناة من العقوبة كما حدث مع البشير، قالت الكارب: "لا بد من الضغط على  السودان لتسليم البشير وكل المجرمين مرتكبي جرائم الحرب في دارفور من أجل أن يحظى السودان بالاستقرار، لا بد من الوقوف ضد الظلامات ومنح الشعب السوداني وإنسان دارفور الحق في الوصول إلى العدالة فهي أساس السلام ودونها يظل السودان أسيرا لدوائر الحرب". 

وقالت الحقوقية السودانية، سليمى إسحاق، مديرة وحدة مكافحة العنف ضد المرأة (هيئة حكومية)، إن الوضع في دارفور كارثي، وبالنسبة للنساء يتم استخدام العنف الجنسي كوسيلة في النزاع، وهو نفس جحيم الماضي للنساء والفتيات، وهذا واقع نتعامل معه كل يوم.

ولفتت “إسحاق”، في تصريحات لـ"جسور بوست"، إلى أن المواقع التي يسيطر عليها الدعم لا يستطيع أحد أن يكتب فيها تقارير عن ذلك العنف، مع خطر التعرض للقتل وليس الاعتقال فقط. 

وتتمنى أن يتم معاقبة الجناة لا سيما في قضايا العنف الجنسي ضد المرأة لعدم تكرار الجرائم وعدم الإفلات من الحساب، مؤكدة أهمية الجدية في نظر المحكمة الجنائية دون أن يكون هناك تأثير سياسي في النظر لشيء وترك شيء والتجاوب مع التجاذبات السياسية.



ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية